فصل: ذكر حصار أتابك زنكي دمشق:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر استيلاء قراسنقر على بلاد فارس وعوده عنها:

وفي هذه السنة جمع أتابك قراسنقر صاحب أذربيجان عساكر كثيرة وحشد، وسار طالباً بثأر أبيه الذي قتله بوزابة في الصاف المقدم ذكره، فلما قارب السلطان مسوداً أرسل إليه يطلب منه قتل وزيره الكمال، فقتله كما ذكرناه، فلما قتل سار قراسنقر إلى بلاد فارس، فلما قاربها تحصن بوزابة منه في القلعة البيضاء، ووطىء قراسنقر البلاد، وتصرف فيها، وليس له فيها دافع ولا مانع إلا أنه لم يمكنه المقام، وملك المدن التي في فارس، فسلم البلاد إلى سلجوقشاه ابن السلطان محمود وقال له: هذه البلاد لك فاملك الباقي؛ وعاد إلى أذربيجان فنزل حينئذ بوزابة من القلعة سنة أربع وثلاثين، وهزم سلجوقشاه وملك البلاد، واسر سلجوقشاه وسجنه في قلعة بفارس.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة، في صفر، توفي الوزير شرف الدين أنو شروان بن خالد معزولاً ببغداد، وحضر جنازته وزير الخليفة فمن دونه، ودفن في داره، ثم نقل إلى الكوفة، فدفن في مشهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، عليه السلام. وكان فيه تشيع، وهو كان السبب في عمل المقامات الحريرية، وكان رجلاً عاقلاً شهماً، ديناً خيراً، ووزر للخليفة المسترشد وللسلطان محمود وللسلطان مسعود، وكان يستقيل من الوزارة فيجاب إلى ذلك ثم يخطب إليها فيجيب كارهاً.
وفيها قدم السلطان مسعود بغداد في ربيع الأول، وكان الزمان شتاء، وصار يشتي بالعراق، ويصيف بالجبال، ولما قدمها أزال المكوس، وكتب الألواح بإزالتها، ووضعت على أبواب الجوامع وفي الأسواق، وتقدم أن لا ينزل جندي في دار عامي من أهل بغداد إلا بإذن، فكثر الدعاء له والثناء عليه، وكان السبب في ذلك الكمال الخازن وزير السلطان.
وفيها، في صفر، كانت زلازل كثيرة هائلة بالشام والجزيرة وكثير من البلاد، وكان أشدها بالشام، وكانت متوالية، كل ليلة عدة دفعات، فخرب كثير من البلاد، ولاسيما حلب فإن أهلها لما كثرت عليهم فارقوا بيوتهم، وخرجوا إلى الصحراء، وعدوا ليلة واحدة جاءتهم ثمانين مرة، ولم تزل بالشام تتعاهدهم من رابع صفر إلى التاسع عشر منه، وكان معها صوت وهزة شديدة.
وفيها أغار الفرنج على أعمال بانياس، فسار عسكر دمشق في أثرهم، فلم يدركوهم فعادوا.
وفيها توفي أبو القاسم زاهر بن طاهر الشحامي النيسابوري بها، ومولده سنة ست وأربعين وأربعمائة، وكان إماماً في الحديث، مكثراً عالي الإسناد.
وتوفي عبد الله بن أحمد بن عبد القادر بن محمد بن يوسف أبو القاسم ابن أبي الحسين البغدادي بها، ومولده سنة اثنتين وخمسين وأربع مائة؛ وعبد العزيز بن عثمان بن إبراهيم أبو محمد الأسدي البخاري، كان قاضي بخارى، وكان من الفقهاء أولاد الأئمة حسن السيرة.
وتوفي محمد بن شجاع بن أبي بكر بن علي بن إبراهيم اللفتواني الأصفهاني بأصفهان في جمادى الأخرة، ومولده سنة سبع وتسعين وأربعمائة، وسمع الحديث الكثير بأصفهان وبغداد وغيرهما. ثم دخلت:

.سنة أربع وثلاثين وخمسمائة:

.ذكر حصار أتابك زنكي دمشق:

في هذه السنة حصر أتابك زنكي دمشق مرتين، فأما المرة الأولى فإنه سار إليها في ربيع الأول من بعلبك بعد الفراغ من أمرها، وتقرير قواعدها وإصلاح ما تشعث منها، ليحصرها، فنزل في البقاع، وأرسل إلى جمال الدين صاحبها يبذل له بلداً يقترحه ليسلم إليه دمشق، فلم يجبه إلى ذلك، فرحل وقصد دمشق، فنزل على داريا ثالث عشر ربيع الأول فالتفت الطلائع واقتتلوا، وكان الظفر لعسكر زنكي وعاد الدمشقيون منهزمين، فقتل كثير منهم.
ثم تقدم زنكي إلى دمشق، فنزل هناك، ولقيه جمع كثير من جند دمشق وأحداثها ورجالة الغوطة، فقاتلوه، فانهزم الدمشقيون، وأخذهم السيف، فقتل فيهم وأكثر، وأسر كذلك، ومن سلم عاد جريحاً. وأشرف البلد ذلك اليوم على أن يملك، اكن عاد زنكي عن القتال وأمسك عنه عدة أيام، وتابع الرسل إلى صاحب دمشق، وبذل له بعلبك وحمص وغيرهما مما يختاره من البلاد، فمال إلى التسليم، وامتنع غيره من أصحابه من ذلك، وخوفوه عاقبة فعله، وأن يغدر به كما غدر بأهل بعلبك، فلما لم يسلموا إليه عاود القتال والزحف.
ثم إن جمال الدين صاحب دمشق مرض ومات ثامن شعبان، وطمع زنكي حينئذ في البلد، وزحف إليه زحفاً شديداً ظناً منه أنه ربما يقع بين المقدمين والأمراء خلاف فيبلغ غرضه، وكان ما أمله بعيداً، فلما مات جمال الدين ولي بعده مجير الدين أبق ولده، وتولى تدبير دولته معين الدين أنز فلم يظهر لموت أبيه أثر مع أن عدوهم على باب المدينة؛ فلما رأى أنز أن زنكي لا يفارقهم، ولا يزول عن حصرهم، راسل الفرنج، واستدعاهم إلى نصرته، وأن يتفقوا على منع زنكي عن دمشق، وبذل لهم بذولاً من جملتها أن يحصر بانياس ويأخذها ويسلمها إليهم، وخوفهم من زنكي إن ملك دمشق؛ فعملوا صحة قوله إنه إن ملكها لم يبق لهم معه بالشام مقام، فاجتمعت الفرنج وعزموا على السير إلى دمشق ليجتمعوا مع صاحبها وعسكرها على قتال زنكي، فحين علم زنكي بذلك سار إلى حوران خامس رمضان، عازماً على قتال الفرنج قبل أن يجتمعوا بالدمشقيين، فلما سمع الفرنج خبره لم يفارقوا بلادهم، فلما رآهم كذلك عاد إلى حصر دمشق ونزل بعذرا شماليها سادس شوال، فأحرق عدة قرى من المرج والغوطة ورحل عائداً إلى بلاده.
ووصل الفرنج إلى دمشق واجتمعوا بصاحبها وقد رحل زنكي، فعادوا،فسار معين الدين أنز إلى بانياس في عسكر دمشق،وهي في طاعة زنكي،كما تقدم ذكرها، ليحصرها ويسلمها إلى الفرنج؛ وكان واليها قد سار قبل ذلك منها في جمع من جمعه إلى مدينة صور للإغارة على بلادها، فصادفه صاحب أنطاكية وهو قاصد إلى دمشق نجدة لصاحبها على زنكي، فاقتتلا، فانهزم المسلمون وأخذوا والي بانياس فقتل، ونجا من سلم منهم إلى بانياس، وجمعوا معهم كثيراً من البقاع وغيرها، وحفظوا القلعة، فنازلها معين الدين، فقاتلهم، وضيق عليهم، ومعه طائفة من الفرنج، فأخذها وسلمها إلى الفرنج.
وأما الحصر الثاني لدمشق، فإن أتابك لما سمع الخبر بحصر بانياس عاد إلى بعلبك ليدفع عنها من يحصرها، فأقام هناك، فلما عاد عسكر دمشق، بعد أن ملكوها وسلموها إلى الفرنج،فرق أتابك زنكي عسكره على الإغارة على حوران وأعمال دمشق، وسار هو جريدة مع خواصه، فنازل دمشق سحراً ولم يعلم به أحد من أهلها، فلما أصبح الناس ورأوا عسكره خافوا، وارتج البلد، واجتمع العسكر والعامة على السور وفتحت الأبواب وخرج الجند، والرجالة فقاتلوه، فلم يمكن زنكي عسكره من الإقدام في القتال لأن عامة عسكره تفرقوا في البلاد للنهب والتخريب، وإنما قصد دمشق لئلا يخرج منها عسكره إلى عسكرهم وهم متفرقون، فلما اقتتلوا ذلك اليوم قتل بينهم جماعة ثم أحجم زنكي عنهم وعاد إلى خيامه ورحل إلى مرج راهط، وأقام بنتظر عودة عسكره، فعادوا إليه وقد ملأوا أيديهم من الغنائم، لأنهم طرقوا البلاد وأهلها غافلون، فلما اجتمعوا عنده رحل بهم عائداً إلى بلادهم.

.ذكر ملك زنكي شهرزور وأعمالها:

في هذه السنة ملك أتابك زنكي شهرزور وأعمالها وما يجاورها من الحصون، وكانت بيد قفجاق بن أرسلان تاش التركماني، وكان حكمه نافذاً على قاضي التركمان ودانيهم، وكلمته لا تخالف، يرون طاعته فرضاً، فتحامى الملوك قصده، ولم يتعرضوا لولايته لهذا ولأنها منيعة كثيرة المضايق، فعظم شأنه وازداد جمعه، وأتاه التركمان من كل فج عميق.
فلما كان هذه السنة سير إله أتابك زنكي عسكراً، فجمع أصحابه ولقيهم فتصافوا واقتتلوا، فانهزم قفجاق واستبيح عسكره، وسار الجيش الأتابكي في أعقابهم فحصروا الحصون والقلاع فملكوها جميعها وبذلوا الأمان لقفجاق فصار إليهم، وانخرط في سلك العساكرولم يزلهو وبنوه في خدمة البيت الأتابكي على أحسن فضية إلى بعد سنة ستمائة بقليل وفارقوها.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة جرى بين أمير المؤمنين المقتفي لأمر الله وبين الوزير شرف الدين علي بن طراد الزينبي منافرة، وسببها أن الوزير كان يعترض الخليفة في كل ما يأمر به، فنفر الخليفة من ذلك،فغضب الوزير، ثم خاف فقصد دار السلطان في سميرية، وقت الظهر، ودخل إليها واحتمى بها، فأرسل إليه الخليفة في العود إلى منصبه، فامتنع؛ وكانت الكتب تصدر باسمه، واستنيب قاضي القضاة الزينبي، وهو ابن عم الوزير، وأرسل الخليفة إلى السلطان رسلاً في معنى الوزير، فأرخص له السلطان في عزله، فحينئذ أسقط أسمه من الكتب، وأقام بدار السلطان؛ ثم عزل الزينبي من النيابة وناب سديد الدولة بن الأنباري.
وفيها قتل المقرب جوهر وهو من خدم السلطان سنجر، وكان قد حكم في دولته جميعها، ومن جملة أقطاعه الري، ومن جملة مماليكه العباس صاحب الري، وكان سائر عسكر السلطان سنجر يخدمونه ويقفون ببابه وكان قتله بيد الباطنية، وقف له جماعة منهم بزي النساء واستغثن به، فوقف يسمع كلامهم فقتلوه، فلما قتل جمع صاحبه عباس العساكر وقصد الباطنية، فقتل منهم وأكثر، وفعل بهم ما لم يفعله غيره، ولم يزل يغزوهم ويقتل منهم ويخرب بلادهم إلى أن مات.
وفيها زلزلت كنجة وغيرها من أعمال أذربيجان وأران إلا أن أشدها كان بكنجة فخرب منها الكثير وهلك عالم لا يحصون كثرة. قيل: كان الهلكى مائتي ألف وثلاثين ألف، وكان من جملة الهلكى ابنان لقرابسنقر صاحب البلاد، وتهدمت قلعة هناك لمجاهد الدين بهروز، وذهب له فيها من الذخائر والأموال الشيء الكثير.
وفيها شرع مجاهد الدين في عمل النهروانات: سكر سكراً عظيما يرد الماء إلى مجراه الأول، وحفر مجرى الماء القديم، وخرق إليه مجراة تأخذ من ديالى ثم استحال بعد ذلك وجرى الماء ناحية السكر، وبقي السكر في البئر لا ينتفع به أحدا، ولم يتعرض أحد لرده إلى مجراه عند السكر إلى وقتنا هذا.
وفيها انقطع الغيث ببغداد والعراق، ولم يجيء غير مرة واحدة في آذار، ثم انقطع، ووقع الغلاء، وعدمت الأقوات بالعراق.
وفيها، في جمادى الأخرى، دخل الخليفة بفاطمة خاتون بنت السلطان مسعود، وكان يوم حملها إلى دار الخليفة يوماً مشهوداً، أغلقت بغداد عدة أيام وزينت وتزوج السلطان مسعود بابنة الخليفة المقتفي لأمر الله، وعقد عليها، واستقر أن يتأخر زفافها خمس سنين لصغرها؛ وفيها، في ربيع الأول، توفي القاضي أبو الفضل يحيى ابن قاضي دمشق المعروف بالزكي. ثم دخلت:

.سنة خمس وثلاثين وخمسمائة:

.ذكر مسير جهاردانكي إلى العراق:

في هذه السنة أمر السلطان مسعود الأمير إسماعيل المعروف بجهاردانكي، والبقش كون خر، بالمسير إلى خوزستان وفارس وأذهما من بوزابة، وأطلق لهما نفقة على بغداد، فسار فيمن معهما إلى بغداد، فمنعهم مجاهد الدين بهروز من دخولها، فلم يقبلوا منه،فأرسل إلى المعابر فخسفها وغرقها، وجد في عمارة السور، وسد باب الظفرية وباب كلوازي، وأغلق باقي الأبواب، وعلق عليها السلاح وضرب الخيام للمقاتلة.
فلما علما بذلك عبرا بصرصر، وقصدا الحلة، فمنعا منها، فقصدا واسط، فخرج إليهما الأمير طرنطاي وتقاتلوا، فانهزم طرنطاي، ودخلوا واسط فنهبوها ونهبوا بلد فرسان والنعامية، وانضم طرنطاي إلى حماد بن أبي الخير صاحب البطيحة، ووافقهم عسكر البصرة، وفارق إسماعيل والبقش بعض عسكرهما وصارا مع طرنطاي، فضعف أولئك، فسار إلى تستر واستشفع إسماعيل إلى السلطان فعفا عنه.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة وصل رسول من السلطان سنجر، ومعه بردة النبي، صلى الله عليه وسلم، والقضيب، وكانا قد أخذا من المسترشد، فأعادهما الآن إلى المقتفي.
وفي هذه السنة توفي أتابك قراسنقر صاحب أذربيجان وأرانية بمدينة أردبيل، وكان مرضه السل، وطال به، وكان من مماليك الملك طغرل، وسلمت أذربيجان وأرانية إلى الأمير جاولي الطغرلي. وكان قراسنقر علا شأنه على سلطانه وخافه السلطان.
وفيها كان بين أتابك زنكي وبين داود سقمان، بن أرتق، صاحب حصن كيفا، حرب شديدة، وانهزم داود بن سقمان، وملك زنكي من بلاده قلعة بهمرد وأدركه الشتاء فعاد إلى الموصل.
وفيها ملك الإسماعلية حصن مصيات بالشام، وكان واليه مملوكاً لبني منقذ أصحاب شيزر، فاحتالوا عليه، ومكروا به حتى صعدوا إليه وقتلوه، وملكوا الحصن، وهو بأيديهم إلى الآن.
وفيها توفي سديد الدولة بن الأنباري واستوزر الخليفة بعده نظام الدين أبا نصر محمد بن محمد بن جهير، وكان قبل ذلك أستاذ الدار ز وفيها توفي يرنقش بازدار صاحب قزوين.
وفيها، في رجب، ظفر ابن الدانشمند، صاحب ملطية وغيرها من تلك النواحي، بجمع من الروم فقتلهم وغنم ما معهم.
وفيها، في رمضان، سارت طائفة من الفرنج بالشام إلى عسقلان ليغيروا على أعمالها، وهي لصاحب مصر، فخرج إليهم العسكر الذي بعسقلان فقاتلهم، فظفر المسلمون وقتلوا من الفرنج كثيراً، فعادوا منهزمين.
وفيها بنيت المدرسة الكمالية ببغداد، بناها كمال الدين أبو الفتوح بن طلحة صاحب المخزن، ولما فرغت درس فيها الشيخ أبو الحسن بن الخل، وحضره أرباب المناصب وسائر الفقهاء.
وفيها، في رجب، مات القاضي أبو بكر محمد بن عبد الباقي الأنصاري، قاضي المارستان، وغيرها من علوم الأوائل، وهو أخر من؛دث في الدنيا عن أبي إسحق البرمكي والقاضي أبي الطيب الطبري وأبي طالب العشاري وأبي محمد الجوهري وغيرهم.
وتوفي الإمام الحافظ أبو القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل الأصفهاني عاشر ذي الحجة، ومولده سنة تسع وخمسين، وله التصانيف المشهورة.
وتوفي يوسف بن الحسن أبو يعقوب الهمذاني من أهل بروجرد، وسكن مرو، وتفقه على أبي إسحق الشيرازي، وروى الحديث واشتغل بالرياضيات والمجاهدات، ووعظ ببغداد، فقام إليه متفقه يقال له ابن السقاء وسأله وآذاه في السؤال فقال: اسكت، إني أشم فيك ريح الكفر! فسافر الرجل إلى بلد الروم وتنصر.
وفيها مات أبو القاسم علي بن أفلح الشاعر المشهور. ثم دخلت:

.سنة ست وثلاثين وخمسمائة:

.انهزام السلطان سنجر من الأتراك الخطا:

ذكر انهزام السلطان سنجر من الأتراك الخطا وملكهم ما وراء النهر:
قد ذكر أصحاب التواريخ في هذه الحادثة أقاويل نحن نذكرها جميعها للخروج من عهدتها، فنقول: في هذه السنة، في المحرم، انهزم السلطان سنجر من الترك الكفار. وسبب ذلك أن سنجر كان قتل ابناً لخوارزم شاه أتسز بن محمد، كما ذكرناه قبل، فبعث خوارزم شاه إلى الخطا، وهم بما وراء النهر، يطمعهم في البلاد ويروج عليهم أمرها، وتزوج إليهم، وحثهم على قصد مملكة السلطان سنجر، فساروا في ثلاثمائة ألف فارس، وسار إليهم سنجر في عساكره، فالتقوا بما وراء النهر، واقتتلوا أشد قتال، وانهزم سنجر في جميع عساكره، وقتل منهم مائة ألف قتيل، منهم أحد عشر ألف صاحب عمامة، وأربعة آلاف امرأة، وأسرت زوجة السلطان سنجر، وتم سنجر منهزماً إلى ترمذ، وسار منها إلى بلخ.
ولما انهزم سنجر قصد خوارزم شاه مدينة مرو، فدخلها مراغمة للسلطان سنجر، وقتل بها، وقبض على أبي الفضل الكرماني الفقيه الحنفي وعلى جماعة من الفقهاء وغيرهم من أعيان البلد.
ولم يزل السلطان سنجر مسعوداً إلى وقتنا هذا لم تنهزم له راية، ولما تمت عليه هذه الهزيمة أرسل إلى السلطان مسعود وأذن له في التصرف في الري وما يجري معها على قاعدة أبيه السلطان محمد، وأمره أن يكون مقيماً فيها بعساكره بحيث أن دعت حاجة استدعاه لأجل هذه الهزيمة، فوصل عباس صاحب الري إلى بغداد بعساكره، وخدم السلطان مسعوداً خدمة عظيمة، وسار السلطان إلى الري امتثالاً لأمر سنجر.
وقيل: إن بلاد تركستان، وهي كاشغر، وبلاساغون، وختن، وطراز وغيرها مما يجاورها من بلاد ما وراء النهر كانت بيد الملوك الخانية الأتراك، وهم مسلمون من نسل افراسياب التركي، إلا أنهم مختلفون، وكان سبب إسلام جدهم اظلول واسمه سبق قراخاقان أنه رأى في منامه كأن رجلاً نزل من السماء فقال بالتركية ما معناه: أسلم تسلم في الدنيا والآخرة، فأسلم في منامه، وأصبح فأظهر إسلامه، فلما مات قام مقامه ابنه موسى بن سبق، ولم يزل الملك بتلك الناحية في أولاده إلى أرسلان خان محمد ابن سليمان بن داود يغراخان بن إبراهيم الملقب بطمغاج خان بن أيلك الملقب بنصر أرسلان بن علي بن موسى بن سبق، فخرج على قدرخان فانتزع الملك منه، فقتل سنجر قدر خان، كما ذكرناه، سنة أربع وتسعين وأربعمائة، وأعاد الملك إلى أرسلان خان، وثبت قدمه، وخرج خوارج، فاستصرخ السلطان سنجر فنصره وأعاد ملكه أيضاً.
وكان من جنده نوع من الأتراك يقال لهم الفارغلية والأتراك الغزية الذين نهبوا خراسان على ما نذكره إن شاء الله، وهم نوعان: نوع يقال لهم أجق، وأميرهم طوطى بن دادبك؛ ونوع يقال لهم برق، وأميرهم قرعوت بن عبد الحميد، فحسن الشريف الأشرف بن محمد بن أبي شجاع العلوي السمرقندي لولد أرسلان خان المعروف بنصر خان طلب الملك من أبيه وأطعمه، فسمع محمد خان الخبر، فقتل الابن والشريف الأشرف.
وجرت بين أرسلان خان وبين جنده القارغلية وحشة دعتهم إلى العصيان عليه وانتزاع الملك منه، فعاود الاستغاثة بالسلطان سنجر، فعبر جيحون بعساكره سنة أربع وعشرين وخمسمائة، وكان بينهما مصاهرة، فوصل إلى سمرقند، وهرب القارغلية من بين يديه.
واتفق أن السلطان سنجر خرج إلى الصيد، فرأى خيالة، فقبض عليهم فأقروا بأن أرسلان خان وضعهم على قتله فعاد إلى سمرقند، فحصر أرسلان خان بالقلعة فملكها، وأخذه أسيراً، وسيره إلى بلخ فمات بها؛ وقيل قد غدر به سنجر، واستضعفه، فملك البلد منه فأشاع عنه ذلك.
فلما ملك سمرقند استعمل عليها بعده قلج طمغاج أبا المعلي الحسن بن علي بن علي بن عبد المؤمن المعروف بحسن تكين، وكان من أعيان بيت الخانية، إلا أ ن أرسلان خان اطرحه، فلما ولي سمرقند لم تطل أيامه، فمات عن قليل، فأقام سنجر مقامه الملك محمود بن أرسلان خان محمد بن سليمان بن داود بغراخان، وهو ابن الذي أخذ منه سنجر سمرقند، وكان محمود هذا ابن أخت سنجر، وكان قبل ذلك، سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة، قد وصل الأعور الصيني إلى حدود كاشغر في عدد كثير لا يعلمهم إلا الله، فاستعد له صاحب كاشغر، وهو الخان أحمد بن الحسن، وجمع جنوده، فخرج إليه والتقوا، فاقتتلوا، وانهزم الأعور الصيني، وقتل كثير من أصحابه، ثم إنه مات، فقام مقامه كوخان الصيني.
وكو بلسان الصين لقب لأعظم ملوكهم، وخان لقب لملوك الترك فمعناه أعظم الملوك. وكان يلبس لبسة ملوكهم من المقنعة والخمار، وكان مانوي المذهب. ولما خرج من الصين إلى تركستان انضاف إليه الأتراك الخطا، وكانوا قد خرجوا قبله من الصين، وهم في خدمة الخانية أصحاب تركستان.
وكان أرسلان خان محمد بن سليمان يسير كل سنة عشرة آلاف خركاو وينزلهم على الدروب التي بينه وبين الصين، يمنعون أحداً من الملوك أن يتطرق إلى بلاده، وككان لهم على ذلك جرايات وإقطاعات، فاتفق أنه وجد عليهم في بعض السنين، فمنعهم عن نسائهم لئلا يتوالدوا، فعظم عليهم، ولم يعرفوا وجهاً يقصدونه وتحيروا، فاتفق أنه اجتاز بهم قفل عظيم فيه الأموال الكثيرة والأمتعة النفيسة، فأخذوه وأحضروا التجار وقالوا لهم: إن كنتم تريدون أموالكم فتعرفونا بلداً كثير المرعى فسيحاً يسعنا ومعنا أموالنا؛ فاتفق رأي التجارعلى بلد بلاساغون فوصفوه لهم، فأعادوا إليهم أموالهم، وأخذوا الموكلين بهم لمنعهم عن نسائهم وكتفوهم، وأخذوا نسائهم وساروا إلى بلاساغون، وكان أرسلان خان يغزوهم ويكثر جهادهم فخافوه خوفاً عظيماً.
فلما طال ذلك عليهم وخرج كوخان الصيني انضافوا إليه أيضاً، فعظم شأنهم وتضاعف جمعهم، وملكوا بلاد تركستان، وكانوا إذا ملكوا المدينة لا يغيرون على أهلها شيئاً، بل يأخذون من كل بيت ديناراً من أهل البلاد وغيرها من القرى، وأما المزروعات وغير ذلك فلأهله، وكل من أطاعهم من الملوك شد في وسطه شبه لوح فضة، فتلك علامة من أطاعهم.
ثم ساروا إلى بلاد ما راء النهر، فاستقبلهم الحاقان محمود بن محمد بن حدود خجندة في رمضان سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة، واقتتلوا، فانهزم الخاقان محمود بن محمد، وعاد إلى سمرقند، فعظم الخطب على أهلها، واشتد الخوف والحزن، وانتظروا البلاء صباحاً ومساء، وكذلك أهل بخارى وغيرها من بلاد ما وراء النهر، وأرسل الخاقان محمود إلى السلطان سنجر يستمده وينهي إليه ما لقي المسلمون، ويحثه على نصرتهم، فجمع العساكر، فاجتمع عنده ملوك خراسان: صاحب سجستان والغور، وملك غزنة، وملك مازندران وغيرهم، فاجتمع له أكثر من مائة ألف فارس وبقي العرض ستة أشهر.
وسار سنجر إلى لقاء الترك، فعبر إلى ما وراء النهر في ذي الحجة سنة خمساً وثلاثين وخمسمائة، فشكا إليه محمود بن محمد خان من الأتراك القارغلية، فقصدهم سنجر، فالتجأوا إلى كوخان الصيني ومن معه من الكفار، وأقام سنجر بسمرقند، فكتب إليه كوخان كتاباً يتضمن الشفاعة في الأتراك القارغلية، ويطلب منه أن يعفوا عنهم، فلم يشفعه فيهم، وكتب إليه يدعوه إلى الإسلام ويتهدده إن لم يجب غليه ويتوعده بكثرة عساكره، ووصفهم، وبالغ في قتالهم بأنواع السلاح حتى قال: وإنهم يشقون الشعر بسهامهم؛ فلم يرض هذا الكتاب وزيره طاهر بن فخر الملك بن نظام الملك، فلم يصغي إليه، وسير الكتاب، فلما قرأ الكتاب على كوخان أمر بنتف لحية الرسول، وأعطاه إبرة، وكلفه شق شعرة من لحيته فلم يقدر أن يفعل ذلك، فقال: كيف يشق غيرك شعرة بسهم وأنت عاجز عن شقها بإبرة؟ واستعد كوخان للحرب، وعنده جنود الترك والصين والخطا وغيرهم، وقصد السلطان سنجر، فالتقى العسكران، وكانا كالبحرين العظيمين،بموضع يقال له قطوان، وطاف بهم كوخان حتى ألجأهم إلى واد يقال له درغم، وكان على ميمنة سنجر الأمير قماج، وعلى ميسرته ملك سجستان، والأثقال ورائهم، فاقتتلوا خامس صفر سنة ست وثلاثين وخمسمائة.
وكانت الأتراك القارغلية الذين هربوا من سنجر من أشد الناس قتالاً، ولم يكن ذلك اليوم من عسكر السلطان سنجر أحسن قتالاً من صاحب سجستان، فأجلت الحرب عن هزيمة المسلمين، فقتل منهم ما لا يحصى من كثرتهم، واشتمل وادي درغم على عشرة آلاف من القتلى والجرحى، ومضى السلطان سنجر منهزماً، وأمر صاحب سجستان والأمير قماج وزوجة السلطان سنجر، وهي ابنة أرسلان خان، فأطلقهم الكفار، وممن قتل الحسام عمر بن عبد العزيز بن مازة البخاري الفقيه الحنفي المشهور. ولم يكن في الإسلام وقعة أعظم من هذه ولا أكثر ممن قتل فيها بخراسان.
واستقرت دولة الخطا والترك الكفار بما وراء النهر، وبقي كوخان إلى رجب من سنة سبع وثلاثين وخمسمائة فمات فيه. وكان جميلاً، حسن الصورة، لا يلبس إلا الحرير الصيني، له هيبة عظيمة على أصحابه، ولم يسلط أميراً على أقطاع بل كان يعطيهم من عنده، ويقول: متى أخذوا الأقطاع ظلموا؛ وكان لا يقدم أميرا على أكثر من مائة فارس حتى لا يقدر على العصيان عليه؛ وكان ينهى أصحابه عن الظلم، وينهى عن السكر ويعاقب عليه، ولا ينهى عن الزنا ولا يقبحه.
وملك له بعده ابنة له فلم تطل مدتها حتى ماتت، فملك بعدها أمها زوجة كوخان وابنة عمه، وبقي ما وراء النهر بيد الخطا إلى أن أخذه منهم علاء الدين محمد خوارزم شاه سنة اثنتي عشرة وستمائة، على ما نذكره إن شاء الله.